فصل: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في أَنْ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عرفة في الآية الكريمة:

قوله تعالى: {فِي الحياة الدنيا}.
إما متعلق ب {يعجبك} أو ب {قَوْلُهُ}. وعادتهم يوردون عليه سؤالا وهو أنه إن تعلق ب {يعجبك} كان الكلام غير مفيد لأنه معلوم لأن الإعجاب منه إنما هو في الدنيا، ولا يقع في الآخرة فهو تحصيل الحاصل، وإن تعلق ب {قَوْلُهُ} فإما أن يراد نفس قوله أو متعلقه، فمتعلقه إنّما هو في الآخرة لا في الدنيا لأن محصول ذلك القول الإسلام وهو أمر أخروي لا دنيوي. وإن أريد نفس {قَوْلُهُ} فذلك القول إنما وقع منه في الدنيا ونحن نعلم ذلك من غير حاجة إلى الإعلام به فيرجع إلى تحصيل الحاصل.
قال: فالجواب أنه على حذف مضاف، أي يعجبك قوله في شأن الحياة الدنيا، لأنه إنما يقصد بكلمة الإسلام عصمته من القتل والأسر وضرب الجزية، وصيانة ماله وعرضه، فالإعجاب راجع إلى حكم دنيوي لأن المراد به نفس التعجب.
قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ}.
دليل على أن العقل في القلب.
قيل لابن عرفة: وهذا من الكذب على الله. وقد ذكر ابن التلمسانى فيه قولين: قيل إنه كفر، وقيل لا؟
قال ابن عرفة: إنّما الخلاف في الكذب على الله في الأحكام كقوله: أَحَلّ الله كذا وحرم كذا وأما قول القائل أي الحالف لقد كان كذا والله يعلم أنّي لصادق، فهو يمين غموس وليس من ذلك القبيل وعلق التعجب بالقول ليفيد التعجّب من كلامه من باب أحرى.
قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام}.
إنما كان مُلدّا لحلفه على الباطل وتأكيده الحلف يعلم أنه تعالى أنه حق. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:

قَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ: وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ خَرَجَ، وَقَالَ: اللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي لَصَادِقٌ، ثُمَّ خَرَجَ وَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ وَحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ وَعَقَرَ الْحُمُرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَهُوَ أَقْوَى.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: في أَنْ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ:

فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَمَا يَبْدُو مِنْ إيمَانِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ الْخَلْقِ مَنْ يُظْهِرُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهُوَ يَنْوِي قَبِيحًا.
وَأَنَا أَقُولُ: إنَّهُ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ حَاكِمٍ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَلَّا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ أَحَدٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَيَخْتَبِرُ بِالْمُخَالَطَةِ أَمْرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَه إلَّا اللَّهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: {إنَّمَا أُمِرْت بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ}.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْكَفِّ عَنْهُ وَعِصْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ مِنْهُ فِي حَالَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا».
وَأَمَّا فِي حَدِيثِ حَقِّ ثُبُوتِ الْمَنْزِلَةِ بِإِمْضَاءِ قَوْلِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُكْتَفَى بِظَاهِرِهِ حَتَّى يَقَعَ الْبَحْثُ عَنْهُ، وَيُخْتَبَرُ فِي تَقَلُّبَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ.
جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ إسْلَامُهُمْ سَلَامَتَهُمْ؛ فَأَمَّا وَقَدْ عَمَّ النَّاسَ الْفَسَادُ فَلَا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}:

يَعْنِي: ذَا جِدَالٍ إذَا كَلَّمَك وَرَاجَعَك رَأَيْت لِكَلَامِهِ طَلَاوَةً وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ». اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}.
أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أصيبت السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم.! فأنزل الله: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} أي لما يظهر من الإِسلام بلسانه {ويشهد الله على ما في قلبه} أنه مخالف لما يقوله بلسانه {وهو ألد الخصام} أي ذو جدال إذا كلمك راجعك {وإذا تولى} [البقرة: 205] خرج من عندك {سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] أي لا يحب عمله ولا يرضى به {ومن الناس من يشري نفسه} [البقرة: 207] الآية. الذين شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه حتى هلكوا في ذلك، يعني بهذه السرية.
وأخرج ابن المنذر عن أبي إسحق قال: كان الذين اجلبوا على خبيب في قتله نفر من قريش عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود، والأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن عبد شمس، وأمية ابن أبي عتبة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {ومن الناس من يعجبك} الآية. قال نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال: جئت أريد الإِسلام، ويعلم الله أني لصادق. فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه فذلك قوله: {ويشهد الله على ما في قلبه} ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فاحترق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله: {وإذا تولى سعى في الأرض} [البقرة: 205] الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الكلبي قال: كنت جالسًا بمكة فسألوني عن هذه الآية: {ومن الناس من يعجبك قوله} الآية. قلت: هو الأخنس بن شريق ومعنا فتى من ولده، فلما قمت اتبعني فقال: إن القرآن إنما أنزل في أهل مكة، فإن رأيت أن لا تسمي أحدًا حتى تخرج منها فافعل.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد المقبري. أنه ذاكر محمد بن كعب القرظي فقال: إن في بعض كتب الله: إن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، لبسوا لباس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين. قال الله تعالى: أعلي يجترئون؟ وبي يغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} الآية.
فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت. فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل تكون عامة بعد.
وأخرج أحمد في الزهد عن الربيع بن أنس قال: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء: ما بال قومك يلبسون جلود الضأن، ويتشبهون بالرهبان، كلامهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر؟ أبي يغترون أم لي يخادعون؟، وعزتي لأتركنّ العالم منهم حيرانًا، ليس مني من تكهن أو تُكُهِّنَ له، أو سحر أو سُحِرَ له، من آمن بي فليتوكل عليّ، ومن لم يؤمن فليتبع غيري.
وأخرج أحمد في الزهد عن وهب «أن الرب تبارك وتعالى قال لعلماء بني إسرائيل: يفقهون لغير الدين، ويعلمون لغير العمل، ويبتغون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون مسوك الضأن ويخفون أنفس الذباب، ويتّقوى القذى من شرابكم، ويبتلعون أمثال الجبال من المحارم، ويثقلون الدين على الناس أمثال الجبال ولا يعينونهم برفع الخناصر، يبيضون الثياب ويطيلون الصلاة، ينتقصون بذلك مال اليتيم والأرملة، فبعزتي حلفت لأضربنكم بفتنة يضل فيها رأي ذي الرأي، وحكمة الحكيم».
وأما قوله تعالى: {وهو ألد الخصام}.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وهو ألد الخصام} قال: شديد الخصومة.
وأخرج الطستي عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق سأله قوله: {وهو ألد الخصام} قال: الجدل المخاصم في الباطل. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول مهلهل:
إن تحت الأحجار حزمًا وجودًا ** وخصيمًا ألد ذا مغلاق

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد {وهو ألد الخصام} قال: ظالم لا يستقيم.
وأخرج وكيع وأحمد والبخاري وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
وأخرج الترمذي والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بك آثمًا أن لا تزال مخاصمًا».
وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: «كفى بك آثمًا أن لا تزال مماريًا، وكفى بك ظالمًا أن لا تزال مخاصمًا، وكفى بك كاذبًا أن لا تزال محدثًا الأحاديث في ذات الله عز وجل».
وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال: من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر حلفه كثر إثمه، ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه.
وأخرج البيهقي في الشعب عن عبد الكريم الجزري قال: ما خاصم ورع قط.
وأخرج البيهقي عن ابن شبرمة قال: من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر فيها خصم، ولا يطيق الحق من تألى على من به دار الأمر، وفضل الصبر التصبر، ومن لزم العفاف هانت عليه الملوك والسوق.
وأخرج البيهقي عن الأحنف بن قيس قال: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من أحمق، وبر من فاجر.
وأخرج البيهقي عن ابن عمرو بن العلاء قال: ما تشاتم رجلان قط إلا غلب أَلأمُهُمَا. اهـ.